فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة المعارج مكية وهي أربع وأربعون آية.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{سأل سآئِلٌ} هو النضر بن الحرث قال: {إِن كان هذا هُو الحق مِنْ عِندِك فأمْطِرْ عليْنا حِجارة مّن السماء أوِ ائتنا بِعذابٍ ألِيمٍ} [الأنفال: 32] أو هو النبي صلى الله عليه وسلم دعا بنزول العذاب عليهم.
ولما ضمن سأل معنى دعا عدى تعديته كأنه قيل: دعا داع {بِعذابٍ واقِعٍ} من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ومنه قوله تعالى: {يدْعُون فِيها بِكلّ فاكهة} [الدخان: 55].
و{سال} بغير همز: مدني وشامي وهو من السؤال أيضا إلا أنه خفف بالتليين و{سائِلٌ} مهموز إجماعا {للكافرين} صفة لـ {عذابِ} أي بعذاب واقع كائن للكافرين {ليْس لهُ} لذلك العذاب {دافِعٌ} راد {مِّن الله} متصل بواقع أي واقع من عنده أو بدافع أي ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته {ذِي المعارج} أي مصاعد السماء للملائكة جمع معرج وهو موضع العروج.
ثم وصف المصاعد وبعد مداها في العلو والارتفاع فقال: {تعْرُجُ} تصعد.
وبالياء: علي {الملائكة والروح} أي جبريل عليه السلام خصه بالذكر بعد العموم لفضله وشرفه، أو خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة علينا، أو أرواح المؤمنين عند الموت {إِليْهِ} إلى عرشه ومهبط أمره {فِى يوْمٍ} من صلة تعرج {كان مِقْدارُهُ خمْسِين ألْف سنةٍ} من سني الدنيا لو صعد فيه غير الملك، أو (من) صلة {واقِعٍ} أي يقع في يوم طويل مقداره خمسون ألف سنة من سنيكم وهو يوم القيامة، فإما أن يكون استطالة له لشدته على الكفار، أو لأنه على الحقيقة كذلك فقد قيل فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر.
{فاصبر} متعلق ب {سأل سائِلٌ} لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بالصبر عليه {صبْرا جمِيلا} بلا جزع ولا شكوى {إِنّهُمْ} إن الكفار {يروْنهُ} أي العذاب أو يوم القيامة {بعِيدا} مستحيلا {ونراهُ قرِيبا} كائنا لا محالة، فالمراد بالبعيد من الإمكان وبالقريب القريب منه.
نصب {يوْم تكُونُ السماء} ب {قرِيبا} أي يمكن في ذلك اليوم أو هو بدل عن {فِى يوْمٍ} فيمن علقه ب {واقِعٍ} {كالمهل} كدردي الزيت أو كالفضة المذابة في تلونها {وتكُونُ الجبال كالعهن} كالصوف المصبوغ ألوانا لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح {ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما} لا يسأل قريب عن قريب لاشتغاله بنفسه.
وعن البزي والبرجمي: بضم الياء أي ولا يسأل قريب عن قريب أي لا يطالب به ولا يؤخذ بذنبه.
{يُبصّرُونهُمْ} صفة أي حميما مبصرين معرفين إياهم، أو مستأنف كأنه لما قال: {ولا يسْئلُ حمِيمٌ حمِيما} قيل: لعله لا يبصره.
فقيل: يبصرونهم ولكنهم لتشاغلهم لم يتمكنوا من تساؤلهم.
والواو ضمير الحميم الأول و(هم) ضمير الحميم الثاني أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم.
وإنما جمع الضميران وهما للحميمين لأن فعيلا يقع موقع الجمع {يودُّ المجرم} يتمنى المشرك وهو مستأنف، أو حال من الضمير المرفوع، أو المنصوب من {يُبصّرُونهُمْ} {لوْ يفْتدِي مِنْ عذابِ يوْمِئِذٍ} وبالفتح: مدني وعلي على البناء للإضافة إلى غير متمكن {بِبنِيهِ وصاحبته} وزوجته {وأخِيهِ وفصِيلتِهِ} وعشيرته الأدنين {التى تُئْوِيهِ} تضمه انتماء إليها.
وبغير همز: يزيد.
{ومن في الأرض جمِيعا} من الناس {ثُمّ يُنجِيهِ} الافتداء عطف على {يفتدى}.
{كلاّ} ردع للمجرم عن الودادة وتنبيه على أنه لا ينفعه الافتداء ولا ينجيه من العذاب {إِنّها} إن النار، ودل ذكر العذاب عليها، أو هو ضمير مبهم ترجم عنه الخبر أو ضمير القصة {لظى} علم للنار {نزّاعة} حفص والمفضل على الحال المؤكدة، أو على الاختصاص للتهويل.
وغيرهما بالرفع خبر بعد خبر ل (أن) أو على (هي نزاعة) {للشوى} لأطراف الإنسان كاليدين والرجلين، أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنزعها نزعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت {تدْعُواْ} بأسمائهم يا كافر يا منافق إلى إلى، أو تهلك من قولهم دعاك الله أي أهلكك، أو لما كان مصيره إليها جعلت كأنها دعته {منْ أدْبر} عن الحق {وتولى} عن الطاعة {وجمع} المال {فأوْعى} فجعله في وعاء ولم يؤد حق الله منه.
{إِنّ الإنسان} أريد به الجنس ليصح استثناء المصلين منه {خُلِق هلُوعا} عن ابن عباس رضي الله عنهما: تفسيره ما بعده {إِذا مسّهُ الشر جزُوعا وإِذا مسّهُ الخير منُوعا} والهلع: سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير.
وسأل محمد بن عبد الله بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقة شرعه.
والشر: الضر والفقر.
والخير: السعة والغنى أو المرض والصحة {إِلاّ المصلين الذين هُمْ على صلاتِهِمْ} أي صلواتهم الخمس {دائِمُون} أي يحافظون عليها في مواقيتها.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه {والذين في أموالهم حقٌّ مّعْلُومٌ} يعني الزكاة لأنها مقدرة معلومة أو صدقة يوظفها الرجل على نفسه يؤديها في أوقات معلومة {لّلسّائِلِ} الذي يسأل {والمحروم} الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم {والذين يُصدّقُون بِيوْمِ الدين} أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة {والذين هُم مّنْ عذابِ ربِّهِم مُّشْفِقُون} خائفون.
واعترض بقوله: {إِنّ عذاب ربِّهِمْ غيْرُ مأْمُونٍ} بالهمز: سوى أبي عمرو أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه وينبغي أن يكون مترجحا بين الخوف والرجاء.
{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون إِلاّ على أزواجهم} نسائهم {أوْ ما ملكتْ أيمانهم} أي إمائهم {فإِنّهُمْ غيْرُ ملُومِين} على ترك الحفظ {فمنِ ابتغى} طلب منكحا {وراء ذلك} أي غير الزوجات والمملوكات {فأولئك هُمُ العادون} المتجاوزون عن الحلال والحرام.
وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء الذكران والبهائم والاستمناء بالكف {والذين هُمْ لأماناتهم} {لأمانتهم} مكي، وهي تتناول أمانات الشرع وأمانات العباد {وعهْدِهِمْ} أي عهودهم ويدخل فيها عهود الخلق والنذور والأيمان {راعون} حافظون غير خائنين ولا ناقضين.
وقيل: الأمانات ما تدل عليه العقول والعهد ما أتى به الرسول.
{والّذِين هُمْ بشهاداتهم} {بشهادتهم} سهل.
وبالألف: حفص وسهل ويعقوب.
{قائِمُون} يقيمونها عند الحكام بلا ميل إلى قريب وشريف وترجيح للقوي على الضعيف إظهارا للصلابة في الدين ورغبة في إحياء حقوق المسلمين {والّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ يُحافِظُون} كرر ذكر الصلاة لبيان أنها أهم، أو لأن إحداهما للفرائض والأخرى للنوافل.
وقيل: الدوام عليها الاستكثار منها والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها، أو الدوام عليها أداؤها في أوقاتها والمحافظة عليها حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها {أولئك} أصحاب هذه الصفات {فِى جنات مُّكْرمُون} هما خبران.
{فمالِ} كتب مفصولا اتباعا لمصحف عثمان رضي الله عنه {الّذِين كفرُواْ قِبلك} نحوك معمول {مُهْطِعِين} مسرعين حال من {الذين كفرُواْ} {عنِ اليمين وعنِ الشمال} عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله {عِزِين} حال أي فرقا شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزى إليه الأخرى فهم مفترقون.
كان المشركون يحتفّون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت {أيطْمعُ كُلُّ امرئ مّنْهُمْ أن يُدْخل} بضم الياء وفتح الخاء: سوى المفضل {جنّة نعِيمٍ} كالمؤمنين {كلاّ} ردع لهم عن طمعهم في دخول الجنة {إِنّا خلقناهم مّمّا يعْلمُون} أي من النطفة المذرة ولذلك أبهم إشعارا بأنه منصب يستحيا من ذكره، فمن أين يتشرفون ويدعون التقدم، ويقولون لندخلن الجنة قبلهم؟ أو معناه: إنا خلقناهم من نطفة كما خلقنا بني آدم كلهم، ومن حكمنا أن لا يدخل أحد الجنة إلا بالإيمان فلم يطمع أن يدخلها من لا إيمان له {فلا أُقْسِمُ بِربِّ المشارق} مطالع الشمس {والمغارب} ومغاربها {إِنّا لقادرون على أن نُّبدِّل خيْرا مّنْهُمْ} على أن نهلكهم ونأتي بخلق أمثل منهم وأطوع لله {وما نحْنُ بِمسْبُوقِين} بعاجزين.
{فذرْهُمْ} فدع المكذبين {يخُوضُواْ} في باطلهم {ويلْعبُواْ} في دنياهم {حتى يلاقوا يوْمهُمُ الذي يُوعدُون} فيه العذاب {يوْم} بدل من {يوْمهُمُ} {يخْرُجُون} بفتح الياء وضم الراء: سوى الأعشى {مّن الأجداث} القبور {سِراعا} جمع سريع حال أي إلى الداعي {كأنّهُمْ} حال {إلى نُصُبٍ} شامي وحفص وسهل {نُصُبٍ} المفضل.
{نصبٌ} غيرهم وهو كل ما نصب وعبد من دون الله {يُوفِضُون} يسرعون {خاشعة} حال من ضمير {يُخْرِجُون} أي ذليلة {أبصارهم} يعني لا يرفعونها لذلتهم {ترْهقُهُمْ ذِلّةٌ} يغشاهم هوان {ذلِك اليوم الذي كانُواْ يُوعدُون} في الدنيا وهم يكذبون به. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة المعارج:
{سأل سآئِلٌ بِعذابٍ واقِعٍ}
من قرأ سأل بالهمز احتمل معنيين؛ أحدها: أن يكون بمعنى الدعاء، أي دعا داع بعذاب واقع، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار: (أمطر علينا حجارة من السماء)، وكان الذي قالها النضر بن الحارث، والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار، أي سأل سائل عن عذاب واقع، والباء على هذا بمعنى عن، وتكون الإشارة إلى قوله: {متى هذا الوعد} [يونس: 48]؟ وغير ذلك، وأما من قرأ {سال} بغير همز فيحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون مخففا من المهموز، فيكون فيه المعنيان المذكوران، والثاني أن يكون من سال السيل إذا جرى، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس: {سال سيل}، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت بزيد، وإذا كان من السيل احتمل وجهين: أحدهما أن يكون شبّه العذاب في شدته وسرعة وقوعه بالسيل، وثانيهما: أن تكون حقيقة، قال زيد بن ثابت: في جهنم واد يقال له سائل، فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة معان {لِّلْكافِرِين} يحتمل أن يتعلق بواقع وتكون اللام بمعنى على، أو تكون صفة للعذاب، أو يتعلق بسأل إذا كانت بمعنى دعا، أي دعا للكافرين بعذاب، أو تكون مستأنفا كأنه قال: هو للكافرين {مِّن الله} يحتمل أن يتعلق بواقع أي واقع من عند الله، أو بدافع أي ليس له دافع من عند الله، أو يكون صفة للعذاب أو متسأنفا {ذِي المعارج} جمع معرج وهو المصعد إلى علو كالسلم، والمدارج التي يُرتقى بها، قال ابن عطية: هي هنا مستعارة في الفضائل والصفات الحميدة، وقيل: هي المراقي إلى السماء، وهذا أظهر لأنه فسرها بما بعدها من عروج الملائكة.
{والروح إِليْهِ} إي إلى عرشه، ومن حيث تهبط أوامره وقضاياه، فالعروج هو من الأرض إلى العرش، والروح هنا جبريل عليه السلام بدليل قوله: {نزل بِهِ الروح الأمين على قلْبِك} [الشعراء: 193-194] وقيل: الروح الملائكة حفظة على الملائكة، وهذا ضعيف مفتقر إلى صحة نقل. وقيل: الروح جنس أرواح الناس وغيرهم {فِي يوْمٍ كان مِقْدارُهُ خمْسِين ألْف سنةٍ} اختلف في هذا اليوم على قولين: أحدهما أنه يوم القيامة، والآخر: أنه في الدنيا. والصحيح أنه يوم القيامة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مانع الزكاة: «ما ممن صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد» يعني يوم القيامة، ثم اختلف: هل مقداره خمسون ألف سنة حقيقة؟ وهذا هو الأظهر، أو هل وصف بذلك لشدة أهواله؟ كما يقال: يوم طويل إذا كان فيه مصائب وهموم، وإذا قلنا إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة، وقيل: الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا، والملائكة تعرج وتنزل في هذه المدة، وهذا كله على أن يكون قوله: {في يوم} يتعلق بـ: {تعرج} ويحتمل أن يكون {في يوم} صفة للعذاب، فيتعين أن يكون اليوم يوم القيامة والمعنى على هذا مستقيم.
{فاصبر} هذا متصل بما قبله من العذاب وغيره، أي: اصبر على أقوال الكافرين حتى يأتيهم العذاب، ولذلك وصفه بالقرب مبالغة في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم {إِنّهُمْ يروْنهُ بعِيدا} يحتمل أن يعود الضمير على العذاب، أو على اليوم الذي مقداره خمسن ألف سنة، والبعيد يحتمل أن يراد به بعد الزمان أو بعد الإمكان، وكذلك القرب يحتمل أن يراد به قرب الزمان لأن كل آت قريب، ولأن الساعة قد قربت، وقرب الإمكان لقدرة الله عليه {يوْم تكُونُ السماء كالمهل} يوم هنا بدل من؛ يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أو بدل من الضمير المنصوب في {نراه} أو منصوب بقوله: {قريبا}، أو بقوله: {يودُّ المجرم} [المعارج: 11]، أو بفعل مضمر تقديره: أذكر. والمهل: هو دُردي الزيت شبه السماء به في سوادها وانكدار أنوارها يوم القيامة، وقيل: هو ما أذيب من الفضة ونحوها، شبّه السماء به في تلوُّنه {وتكُونُ الجبال كالعهن} العِهن هو الصوف، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه وقيل: هو الصوف المصبوغ ألوانا فكيون التشبيه في الانتفاش، وفي اختلاف الألوان، لأن الجبال منها بيض وسود وحمر {ولا يسْألُ حمِيمٌ حمِيما} الحميم هنا الصديق والمعنى لا يسأل أحد من حميمه نصرة ولا إعانة؛ لعلمه أنه لا يقدر له على شيء، وقيل: لا يسأله عن حاله لأن كل أحد مشغول بنفسه.
{يُبصّرُونهُمْ} يقال: بصر الرجل بالرجل إذا رآه، وبصّرته إياه بالتشديد إذا أريته إياه، والضميران يعودان على الحميمين لأنهما في معنى الجمع، والمعنى أن كل حميم يبصر حميمه يوم القيامة فيراه ولكنه لا يسأله {وصاحِبتِهِ} يعني امرأته {وفصِيلتِهِ} يعني القرابة الأقربين {تُؤْوِيهِ} أي تضمه، فيحتمل أن يريد تضمه في الانتماء إليها أو في نصرته وحفظه من المضرات {ثُمّ يُنجِيهِ} الفاعل الافتداء الذي يقتضيه لو يفتدي، وهذا الفعل معطوف على {لوْ يفْتدِي} وإنما عطفه بـ: {ثم} إشعارا ببعد النجاة وامتناعها، ولذلك زجره عن ذلك بقوله: {كلاّ إِنّها لظى} الضمير للنار لأن العذاب يدل عليها، ويحتمل أن يكون ضمير القصة وفسره بالخبر و{لظي} علم لجهنم مشتق من اللظى بمعنى اللهب {نزّاعة للشوى} الشوى أطراف الجسد، وقيل: جلد الرأس، فالمعنى أن النار تنزعها ثم تعود، و{نزاعة} بالرفع بدل من {لظى}، أو خبر ابتداء مضمر، أوخبر لإنها إن جعلنا {لظى} منصوبا على التخصيص، أو بدل من الضمير، أو خبر ثاني لإنها إن جعلنا {لظى} خبر لها، و{نزاعة} بالنصب حال {تدْعُواْ منْ أدْبر وتولى} يعني الكفار الذين تولوا عن الإسلام، ودعاؤها لهم عبارة عن أخذها لهم، وقال ابن عباس: تدعوهم حقيقة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وقيل: معناه تهلك، حكاه الخليل عن العرب {وجمع فأوعى} يقال: أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعاء، فالمعنى جمع المال وجعله في وعاء، وهذه إشارة إلى قوم من إغنياء الكفار جمعوا المال من غير حله ومنعوه من حقه.
{إِنّ الإنسان خُلِق هلُوعا} الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه، سئل أحمد بن يحيى مؤلف الفصيح، عن الهلوع فقال: قد فسره الله فلا تفسيرا أبْين من تفسيره وهو قوله: {إِذا مسّهُ الشر جزُوعا وإِذا مسّهُ الخير منُوعا} وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق، ولذلك استثنى منه المصلين، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها {الذين هُمْ على صلاتِهِمْ دآئِمُون} الدوام عليها هو المواظبة بطول العمر، والمحافظة عليها المذكورة بعد ذلك هي أداؤها في أوقاتها وتوفية الطهارة لها {حقٌّ مّعْلُومٌ} قد ذكرنا في [الذاريات: 19] معنى حق والسائل والمحروم، ووصفه هنا بالملعوم؛ إن أراد الزكاة فهي معلومة المقدار شرعا، وإن أراد غيرها فمعنى المعلوم؛ أن العبد يجعل على نفسه وظيفة معلومة عنده.
{غيْرُ مأْمُونٍ} أي لا يكون أحد آمنا منه فإن الأمن من عذا الله حرام، فلا ينبغي للعبد أن يزيل عنه الخوف حتى يدخل الجنة.
{لأماناتِهِمْ وعهْدِهِمْ} ذكر في [المؤمنين: 8] وكذلك لفروجهم حافظون {والّذِين هُمْ بِشهاداتِهِم قائِمُون} قال ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وقال الجمهور: يعني الشهادة عند الحكام، ثم اختلف على هذا في معنى القيام بها؟ فقيل: هو التحقيق لها كقوله صلى الله عليه وسلم: «على مثل الشمس فاشهدوا». وقيل: هو المبادرة إلى أدائها من غير امتناع، فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه، وأما إذا لم يدع إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام: أحدها: حقوق الناس، فلا يجوز أداؤها حتى يدعوه صاحب الحق إلى ذلك، والثاني: حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق والعتق والأحباس، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع، الثالث: حقوق الله لا يستدام فيها التحريم كالحدود، فهذا ينبغي ستره، حتى يدعى إليه.
{فمالِ الّذِين كفرُواْ قِبلك مُهْطِعِين} أي مسرعين مقبلين إليك بأبصارهم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل، الكفار ينظرون إليه ويستمعون قراءته، ومعنى قبلك في جهتك وما يليك {عِزِين} أي جماعات شتى وهو جمع عزة بتخفيف الزاي وأصل عزوة، وقيل عزهة ثم حذفت لامها وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة {أيطْمعُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أن يُدْخل جنّة نعِيمٍ} كانوا يقولون إن كان ثم جنة فنحن أهلها {كلاّ} ردع لهم عما طمعوا فيه من دخول الجنة {إِنّا خلقْناهُم مِّمّا يعْلمُون} كناية عن المنيّ الذي خلق الإنسان منه، وفي المقصود بهذا الكلام ثلاثة أوجه؛ أحدها: تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين. الثاني: الردّ على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة كأنه يقول: إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح؛ لأنكم سواء في الخلقة، الثالث: الاحتجاج على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين، فهو قادر على أن يعيدهم كقوله: {ألمْ يكُ نُطْفة مِّن مّنِيٍّ يمنى} [القيامة: 37] إلى آخر السورة.
{فلا أُقْسِمُ} معناه أقسم، ولا زائدة {بِربِّ المشارق والمغارب} ذكر في [الصافات: 5] {إِنّا لقادِرُون على أن نُّبدِّل خيْرا مِّنْهُمْ} تهديد الكفار بإهلاكهم، وإبدال خير منهم {وما نحْنُ بِمسْبُوقِين} أي مغلوبين، والمعنى: إنا لا نعجز عن التبديل المذكور أو عن البعث {فذرْهُمْ} وعيد لهم، وفيه مهادنة منسوخة بالسيف {يوْمهُمُ الذي يُوعدُون} يعني يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه {يوْم يخْرُجُون مِن الأجداث} وهي القبور {كأنّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُون} النصْب الأصنام، وأصله كل ما نصب إلى الإنسان، فهو يقصد إليه مسرعا من علم أو بناء أو غير ذلك، وفي لغات فتح النون وإسكان الصاد، وضم النون وإسكان الصاد وضمها، و{يوفضون} معناه: يسرعون، والمعنى أنهم يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر، كما يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا. اهـ.